كيمياء أحيدوس


كيمياء أحيدوس
                                                         
تقديم:
يندرج هذا المقال ضمن تصور عام ننطلق منه تأسيسا لمشروع نقدي يتخذ الثقافة الشعبية المغربية متن الحي، ويتكئ على خلفيات أنثروبولوجية قصد تمكين المتلقين من معرفة أعماق هذه الثقافة، وينهل من الحس التفكيكي رغبة في خلخلة التصورات الشعبوية المتمركزة حول هذه الثقافة. ولعل هذا العنوان طارح لمجموعة من الأسئلة الضمنية، لأنه يثير دهشة لدى المتلقي، وفي محاولة بسط هذا الإشكال نقر أن العلاقة بين أحيدوس والكيمياء علاقة بحث صرفة، لأن المقصود بالكيمياء عملية بحث صرف، لأن الكيمياء عملية إجرائية تهدف إلى استخلاص المواد الأساسية لأحيدوس، بحيث نخضع هذا المتن (أحيدوس) في تعدده واختلافه، وفي وحدته واتفاقه لعملية ذات هدف واضح وهو الوقوف عند الديني والاجتماعي والفني، وعزل الرقص عن اللعب والطقس، وتخليص الشعر عن المثل وعن المسكوك من الكلام، وعن الدعاء، خاصة أن هذا الشكل التعبيري فضاء للتفاعل الذي يصل في أحيان كثيرة حد التجانس والتماهي. فما أحيدوس؟ وما مكوناته؟ وكيف يشتغل؟
نقترح لمعالجة هذه الأسئلة خطة موزعة على محورين أساسيين، سنعالج في الأول التمثلات القبلية لأحيدوس، بحيث يكون رقصا أو أغنية أو فنا أو لعبة أو فولكلورا، أو هذه الـتمثلات كلها مجتمعة أو متفرقة بعضها عن بعض، وسنحاول في الثاني تفكيك هذه التمثلات في ضوء مقاربة تعتبر أحيدوس شكلا تعبيريا يتوسل به نوع اجتماعي خاص، وفي ضوء مقاربة أخرى تجعله عادة وتراثا وفرجة ونظاما من الرموز، لنخلص في نهاية إلى المطاف إلى ما يجعله وثيقة معبرة عن الحياة في بعدها المطلق.
         I-        أحيدوس: تمثلات وإشكالات
تجد هذه القراءة نفسها الآن أمام متلقيين ضمنيين، الأول في الدرجة الصفر من المعرفة بأحيدوس، وتقتضي الضرورة أن يعطى تعريفا أوليا، في شكل مواضعة قبلية لبناء المعرفة، والثاني له معرفة سابقة، ضيقة أو اسعة بأحيدوس، وتفرض عليه هذه المعرفة القبلية مفهوما خاصا لأحيدوس، وتقتضي الضرورة أن يساير في مفهومه، أو أن يصحح له هذا المفهوم، حتى يكون في اتصال بالمعرفة التي تبنى من خلال هذا التفاعل الضمني، ولعل في هذه الإزدواجية ما يشفع لنا لنسلك مسلكا آخر في التعريف بهذا العنصر من الثقافة الشعبية المغربية، لنرصده من خلال التمثلات القبلية التي تجول في أذهان عديد من المتلقين من الدرجة الثانية التي سبق ذكرها، وستسمح لنا هذه العملية بتمكين المتلقين من تلك الدرجة الأولى من تكوين معرفة عن أحيدوس تمكننا جميعا من التفاعل الإيجابي لإنتاج معرفة نقدية حول الثقافة الشعبية عموما، وحول الثقافة الشعبية المغربية خصوصا، وحول أحيدوس بشكل أخص، ولهذه الغاية سندرسه في ضوء عتبات نراها متفرعة عن هذا المحور.
1.  رقصة أحيدوس:
يحتل الرقص حيزا مهما من أحيدوس، وقد ركز عدد من المتلقين اهتمامهم على هذا الجزء للتعبير عن أحيدوس بكونه رقصا، ويستوي في ذلك المتلقي المغربي وغير المغربي، والأكاديمي بالباحث الصحفي أو الهاوي، والممارس بالمكتشف، هكذا يؤسس الرقص لمركزية فنية، باعتباره بطاقة لمركزية الثقافة البصرية الهادفة إلى استهلاك الجسد وما عليه من ألبسة، وزينة وحلي.. فيكرس هذا الفهم ثقافة استهلاكية للجسد الذي يستعلن في استعراض الانسان باعتباره أنموذجا للموضا Mannequin، وتحويله إلى أنموذج إيروسي، فيكون ذلك سبيلا للتأسيس لمركزية العهر التي ترى أحيدوس رخصة الاستمتاع بالجسد الماثل أمام المشاهدين في حركاته المفجرة لجماله، فتحولت كلمة "الشطيح" ذات الصلة بالمقدس باعتبارها شكلا من أشكال الاتصال الصوفي بالطوطم، إلى الاستعراض الهادف إلى الإثارة والإغراء والغواية، وفي مرتبة دون الرقص، لأن الرقص هو الآخر تعرض لتقزيم بتأثير المركزية الفنية الأورو-أمريكية من جهة، والثقافات الهند-الصينية والعربية من جهة ثانية.
    والحقيقة أن أحيدوس ليس رقصا رغم توفره على مقاطع من الرقص، أو غلبة الرقص على بعض الألوان منه، لأنه يتضمن عناصر أخرى غير الرقص، وقد قال سعيد كريمي في ذلك: "وأحيدزس ليس فقط هو الرقص، بل أساسا الغناء المصاحب لمجموعة من الرقصات المحددة والمضبوطة، والمقننة، والحاملة لمجموعة من المعالم والدلالات[1]" وقد يشكل عنصر من عناصره  بؤرة دلالية لدى بعض المتلقين، فيتخذونه عماد توصيف آخر، كم عبر الشاهد السابق على مركزية الرقص والغناء معا في تناغم خاص لخلق نصية أحيدوس.
ولقد فرضت الثقافة الفرجوية مركزيتها في قراءة الأشكال التعبيرية وتلقيها، وفي حالة الرقص الأمازيغي –حسب محمد صبري- يستطيع المتفرج، انطلاقا من الوهلة الأولى، وصفه وصفا بصريا، لكنه يبقى وصفا إيطوبيا في غياب القاموس الثقافي الذي يؤطر هذا النص، والذي يساهم بشكل أساسي في الخطاب القولي وغير القولي، فيؤهله لإعطائه قراءة تأويلية تتناسب وفهمه له[2]"، ولذلك فالرقص مبحث هام لدراسة هذا الشكل التعبيري ومنطلق أساسي لاستجلاء العناصر الفرجوية التي يتضمنها، خاصة أنه يشكل ذاكرة لحركات وإيماءات تمثل جسد لغة غير منطوقة، حروفها الجسد والعزف والإيقاع.
2.  أغاني أحيدوس
لا يكون أحيدوس إلا بالغناء والموسيقى والعزف، فتستعمل في ذلك آلات خاصة، ويرتجل الشعر الذي يعد عماد الغناء، لكنه يحتفظ بإيقاعات خاصة يصعب التمييز فيها في حالات، ويسهل ذلك في حالات أخرى لأنه اسم واحد لتعبيرات مختلفة، بحيث يكون لسان مجموعات اجتماعية، وإذا كان الغناء عنصرا أساسيا في أحيدوس فإنه لا يمثله في كليته،بل تربط بينهما علاقة مجازية يستعمل فيها الجزء ويراد الكل، ولاشك أن الباحث المتمرس في هذا الميدان، سيقف عند أنواع مختلفة من أحيدوس، يتم التمييز فيها بناء على المواضيع المتناولة وطرق الأداء، ولذلك فلا شك أن أحيدوس أقورار (الجاف)أو أخاثار (الأكبر)، يعبر عن فئة الكبار من أهل الحكمة والوقار، وهو الذي تتخذ له أزياء خاصة ولا يقف لأدائه إلا المتمرسون في الشعر الأمازيغي وفي ضبط الايقاع وحسن الحركة، واللياقة في الرد على الخصوم بعد فك شفرات أشعارهم، ولا يقف إليه من النساء إلا ذوات الفصاحة في القول والنباهة في فنون الأداء الأمازيغية حتى لا تسقط الجودة في براثن الضحالة، عكس تاحيدوست أي أحيدوس الصغير الذي يتفنن فيه الشباب والمبتدؤون ويجوز فيه ما لا يجوز في أحيدوس أخاثار، حتى في مواضيعه التي قد يحتل الغزل والعذل والإغراء أهم حيز من كلماته، وتقف إليه العذارى في الغالب لأنهن الأمثل لتبادل رسائل الحب المشفرة بالحركات والإيماءات والكلام الشعري في هذا النوع من أحيدوس. هكذا يختلف أحيدوس غناء وشعرا وموضوعا بين نوع الكبار ونوع الصغار، ولعله في ذلك يتجاوز حدود اللعب بمفهومه المعتاد، ليصبح متنا من متون المعرفة الأمازيغية.
ولاشك أن الثقافة المغربية غنية بأشكالها الغنائية التي يعد أحيدوس واحدا منها في فضاء الثقافة الأمازيغية، بحيث "تحظى الموسيقى والغناء والرقص بحضور قوي كسند رمزي وجمالي وطيد الصلة والتبادل بالمحيط الطبيعي والاجتماعي للذات والكائن[3]، وترتبط به مجموعة من الفنون القولية التي تشكل فضاء الكلمة الشعرية  التي تتجاوز الأسامي لتصبح مصطلحات نقدية تميز بين الأشكال كثماويت وتايزيمت وتيكي (thamawayt , tayzzimt et tigui)
3.  لعبة أحيدوس
يرتبط أحيدوس في قاموس الكثير من الممارسين بمصطلح اللعب، في حين أن اللعب يطرح إشكالا كبيرا عند المقارنة بينه وبين الجد والهزل والعلم، فنجد أن تمثل المجتمع للعب تمثل هرمي، يتناقص كلما اتجهنا نحو  الأعلى، ويتزايد كلما اتجهنا نحو القاعدة، مناسبة مع عمر الإنسان، وهذا يعني أن أحيدوس إذا كان لعبة سينتشر في صفوف الأطفال بنسبة أكثر من الشباب ومن الشيوخ، لكننا نجد العكس هو الحاصل تماما في ممارسة هذا الشكل التعبيري، ولا يمكن لأحيدوس أن يكون لعبا بالمفهوم السائد للعب في المجتمع، أو لعله لعب آخر، أو لعب جدي يقلص المسافة بين المفاهيم بالمعنى الذي يرى كوتسينغا أن إخضاع اللعب للمعايير الكمية والتجريبية يفقده قيمته، ويرى أننا في إطار تفكيرنا المحدود، نعتقد أن اللعب هو نقيض الجد. ومن الوهلة الأولى فإن هذا التناقض بين الجد واللعب يتعذر اختزاله أو تطبيقه على نماذج أخرى بما في ذلك مفهوم اللعب نفسه[4]"، ولكن أحيدوس بالنسبة لمجتمع الممارسة علم وقناة لتمرير المعارف من جيل لآخر، يجمع بين الأخلاق والفنون والآداب والحرف التقليدية، لأن آلات اللعب تصنع بإتقان، وكذلك الأزياء ومواد التطرية والتجميل.. إنه باختصار وثيقة لمختلف التعابير التي يتوسل بها الإنسان الأمازيغي في حياته ومناسباته.
4.  فولكلور أحيدوس
إذا كانت التمثلات السابقة نابعة من مجتمع أحيدوس نفسه، ومن الفئة العارفة به، فإن هناك تمثلا من الخارج، قد يكون من المغرب نفسه، أو من خارج المغرب، يقضي بكون أحيدوس فولكلورا، ولاشك أننا لا نعود بالضرورة إلى المفهوم الألماني جميعا لتحديد المراد من لفظ الفولكلور، كما لا نعود إلى الثقافة نفسها في إنزال هذه المفاهيم وإسقاطها على الثقافة الشعبية، لكن لا شك أن مفهوم الفولكلور في شتى الحالات يحمل دلالة تنقيصية لأنه يقيم مقارنة ضمنية بين ما هو عالم وما ليس عالما، وبين ما هو رصين وما ليس كذلك، ولعل في هذه النظرة كثيرا من الحيف، خاصة أن كل ثقافة ترى نفسها داخليا، في مستوى الصفوة مقارنة بالثقافات الأخرى، وهذا ينطبق على أحيدوس، فلا يمكن لأولئك الممارسين أن يتصوروه شكلا تعبيريا دونيا، ويمارسونه في أفراحهم بتلقائية خاصة وفي حبور يصل حد التقديس كما سنوضح في المحور الثاني.
        II-       علمنة أحيدوس، أو نحو قراءة عالمة :
يقتضي التفكير الجاد في الثقافة الشعبية قراءتها في ضوء خصائصها الفنية ومرجعياتها الاجتماعية، لا باعتبارها موضوعا للدراسة فحسب، بل لأنها ثقافة المجتمع وطريقته في التفكير والتعبير عن تفاعله مع الحياة في أبعادها المطلقة، ولهذا نعتبر أحيدوس صورة للأنواع الاجتماعية التي تمارسه، وشكلا تعبيريا يتضمن خصائص فرجوية كثيرة، ويتجاوز حدود الأراء التراثية، باعتباره  منظومة من الرموز، يتداخل فيها الدينية والأسطوري والاجتماعي والفني للتعبير عن ثقافة تمتد عبر العصور.
1.  أحيدوس النوع الاجتماعي
ينتشر أحيدوس في فضاء شاسع من أرض المغرب امتدادا من نواحي تازة إلى الجنوب الشرقي إلى نواحي أزيلال وقصبة تادلة وبني ملال، وتعرف به القبائل المنتشرة في هذه المناطق، مع اختلاف أساليبه وآلاته وإيقاعاته باختلاف هذه القبائل، بل قد نجد في فضاءات معينة أشكالا مختلفة لهذا الشكل التعبيري من قبل أنواع اجتماعية مختلفة تتقاسم الفضاء نفسه، كما أن التشابه في شكل الأداء قد يوهم كثيرا من الباحثين بالتشابه الكلي، إلا أن الممارسين والعرفين بهذه الثقافة الأمازيغية في تمايزاتها، يستطيعون التمييز بين أشكال مختلفة تحمل إيقاعا خاصا، أو إيماءة، أو لباسا، أو طريقة لاستعمال الآلات، أو عدد المشاركين، أو طريقة انتظامهم في الفرقة، وغيرها من الوسائل التي يتمايز بها أحيدوس من نوع اجتماعي إلى آخر.
ولعل هذه الأشكال من التمايز التي تعبير عن الإختلاف في بعض وجوهه، لا تستثني أشكالا أخرى من التشابه، خاصة أن هذه الأنواع الاجتماعية تتفق في كونها مركبات صغيرة، أو لبنات مجتمع أمازيغي، يحقق له هذا المسمى أحيدوس جزءا من الإنتماء المشترك، أو يعد وجها من وجوه الهوية الجمعية التي لا يمكن إنكارها في هذا الفضاء، وإلا فلماذا لم نجد هذا الشكل التعبيري في بلد آخر مثلا؟
أجل، فهذه الدهشة التي يحملها هذا السؤال تنطوي على كثير من الموضوعية الآنية للقول إن أحيدوس لا ينفصل عن إيمازيغن الذين يشكلون نوعه الاجتماعي، كما تميز السامبا عددا من البرازيليين، ويميز السحر كهنة بابل.
2.  أحيدوس الشكل التعبيري
سنحاول من خلال هذا المقال أن نميز بين بعض الأشكال الظاهرية لأحيدوس، ونشير إلى بعض الأنواع الاجتماعية التي تشترك في هذه الأشكال، ثم سنحاول الوقوف عند بعض الإختلافات الشكلية التي يمكن أن تكون عتبة للمقارنة بين أحيدوس أنواع اجتماعية مختلفة، دون الاقرار بحصر هذه الأشكال لأن دراستنا بعيدة كل البعد عن الحس الإحصائي. ولهذه الغاية نميز بين هذه الأشكال:
·                    الشكل الدائري: يستجيب هذا الشكل لضرورة فرجوية خاصة، ينخرط فيه الجمهور باعتبارهم مشاركين في تأثيث فضاء اللعب ويرقصون فرادى أو جماعات، وقد يقلد بعضهم فريق اللعب، فتردد النساء الزغاريد تعبيرا عن رضاهن بأحيدوس، أو تعبيرا عن إدراكهن للمعاني التي تحملها الكلمة الشعرية، ولذلك لا يستبعد أن يكون التأويل محايثا لأحيدوس في هذا الشكل، خاصة أن أغلب المشاركين يشتركون في ثقافة النوع الإجتماعي الذي يمارس هذا الشكل التعبيري، ويسود هذا الشكل الدائري  فضاءات الأطلس المتوسط إلى حدود إملشيل.
·        الصفان المتوازيان:  يستجيب هذا الشكل لمنطق طبيعي يختزل الكون في ثناية تقابلية، يمثلها زوج الرجل والمرأة اللذين يمثلان وحدة قياسية لتنظيم أحيدوس، فلا يقف الرجال مقابلين للرجال، بل يقع أن يتخلص فريق اللعب من الدفوف متى عجز عن إقناع اللاعبات لمشاركتهم هذا اللعب، وذلك باستعمال مواويل يطلق عليها غالبا ثيماوايين ، وهو الشكل الطاغي على فضاءات الجنوب الشرقي للمغرب، ويحيط بفريق اللعب مجموع المتفرجين الذين يحولون الصفين المتوازيين إلى خطين في قلب دائرة الوحدة الاجتماعية التي تذيب المسافة بين ألوان الفضاء الاجتماعي المختلفة.
·        الصفان المنشطران: هذا الشكل منحدر من الشكل الذي سبق (الصفان المتوازيان)، بل يبدأ اللعب على شكل صفين وأثناء اللعب يبدأ انشطار المجموعة من الرجال والنساء إلى أربعة صفوف على شكل رباعي يسمى بالمعيّن؛ وهو رباعي متوازي الأضلاع وغير قائم الزاوية، وقد يجلس اللاعبون القرفصاء، فتتحول النساء إلى طائفات بالتتابع حول هؤلاء الجالسين، وهو شكل مألوف في قلعة مكونة خاصة.
ولعل هذه الأشكال دالة على عقد يلتحم تارة وينقطع تارة وينتثر أخرى، ورغم أنه متعلق بمناسبات الأفراح عموما، بل يمكن اعتباره شكلا تعبيريا متعدد الوسائل والغايات، فهو لسان القبلية، به تعيد إنتاج الحياة في أبعادها المختلفة، لأنه صورة للعلاقات الاجتماعية التي تختزل في ساحات اللعب، وهو مشهد ثقافي موشى بلغة شعرية قائمة على الارتجال والترديد حتى تحفظ هذه الأشعار من قبل المتلقين المشاركين، بما يجعله مدرسة للارتجال القائم على الحرفية والحذق، وهو مجال لصناعة إيقاعات تبدو رتيبة من وجهة نظر خارجية، لكنها متغيرة في التعبير عن الأجواء النفسية للاعبين والمتلقين النوعيين، بحيث يمتزج اللعب على الآلات بإيقاع الكلمات والمعاني لخلق تناغم يصل حد الحلول في جو يصعب التمييز فيه بين المقدس والمدنس وبين اليومي والرمزي .
3.  أحيدوس: الترميز بين العادة والفرجة
تتسع دائرة أحيدوس المفهومية، فتمتد لتشمل مجالات العادة والفرجة، أما  إفادته العادة فلا يعني الإعتياد وحسب، بل يتجاوز ذلك ليفيد الوثيقة التي يكتبها الإعتياد ويطبعها العود لتصبح قانونا اجتماعيا، يحدد المسافات الواجب احترامها بين مكونات مجتمع الممارسين وغير الممارسين لهذا الشكل التعبيري، ولأنه كذلك فإنه يختزن قيم الجدارة التي نجد لها آثارا في الأفكار الدينية عند الشعوب المختلفة، ولاشك أن أحيدوس كان خزانا لمجموعة من المعتقدات التي عرفها أمازيغ المغرب عبر التاريخ، فلا غرابة أن تجد بعض النساء الممارسات يغطين أوجههن وهن فاعلات بترديد مقاطع من الأشعار المغناة، ويضبطن الإيقاع بطقطقات أكفهن وحركات أجسادهن المختزلة لتناغم الصوت والكلمة والحركة في عالم الفرجة، فيقمن بعمل مفارق إذ يحاولن الانتصار للجظة أحيدوس بتحايل فني يحاول إرضاء الدين بتلك الأغطية التي تضفي عليهن صفات الوقار والحشمة والإنضباط لقيم المنع التي تفرضها التأويلات الدينية، فيما يعرف بالتحريم، ومما يعبر عن هذه الافكار الدينية كذلك، توظيف النار في أحيدوس التقليدي، لأن تلك النار تتجاوز حدود الحاجة الفنية لأنها وسيلة لتجويد آلات اللعب المعدة أساسا من جلود المواشي التي تغطى بها إطارات خشبية، وتتجاوز حدود الجاجة الاجتماعية إذ تستعمل للتدفئة في الليالي الباردة، وتوفر الإنارة في فضاء غير مزود بحاجياته الأساسية، لأنه فضاء القبيلة التي تعيش على حياة الشح والعزلة عن مؤهلات الفضاء في سياسة الدولة، وهو ما بات يتحقق شيئا فشيئا، ويؤثر بشكل عكسي في أحيدوس إذ شرع في استقدام آلات أخرى للعب كالدفوف البلاستيكية التي تكون جاهزة للعب في أي وقت، ولهذا بدـأ أحيدوس يفقد كثيرا من عناصره المساهمة في خلق الفرجة، كالنار التي تراجع دورها الديني لانتشار أفكار دينية قائمة على التوحيد، وتغير أنماط العيش وتأهيل البوادي، بتوفير الإنارة الكافية لتغطية ساحات اللعب الجماعي.. وبهذا فقد عدد من عناصره تلك الرمزية كما فقدتها النار التي كانت توقد في الوسط لأداء وظائفها المتعددة، وساهم في تكريس هذه الوضعية الجديدة تحول المجتمع من مجتمع فلاحي معتمد على الفلاحة والمواشي حتى في فنونه، إلى مجتمع معتمد على الهجرة والخدمات والحرف، فتغير بذلك زمن اللعب من الليالي الشتوية الباردة إلى الليالي الصيفية، لأن الضرورة الطقسية التي كانت جامعة للفلاحين في فصل الشتاء، تحولت إلى العطلة الصيفية التي تمثل زمنا مشتركا بين أغلب سكان القبيلة، فأصبحت الحاجة إلى التدفئة أمرا مقضيا، وقد أدى تطور وسائل الاتصال إلى فقدان أحيدوس لهذا الدور، فلم يعد وسيطا إعلاميا مباشرا بين السكان لنشر الأخبار كما كان الحال في سابق عهدهم، بل فقد هذه الوظيفة فكان عليه أن يتفاعل مع هذه الوسائل مما أدى إلى خلق أشكال جديدة من أحيدوس، خاصة ذلك القائم على تقنيات التسجيل في العلب الفنية Boites électriques، وقد برع مجموعة من الأعلام في هذا الفن خاصة خالد البدراوي، ولحسن أولافي والحسن أوباحا وعزيز أمزيل وعسينو، وقد كان حدا بعسين سباقا لهذه التجربة، لكنه مات دون أن يستفيد من خدمات الأنترنت التي استفاد منها هؤلاء الشباب في الجنوب الشرقي.
خلاصة:
نقر في نهاية هذه القراءة أن كيمياء أحيدوس زواج مشروع بين العلم والفن، خاصة أن التراكب الذي يمتاز به أحيدوس بين اليومي والرمزي، وبين العجيب والغريب، وبين التاريخي والمبتذل والجديد، وبين النظام والعشوائية هو الذي يشكل لحمته، لتجاوز التمثلات التي تختزله في الرقص، أو في الغناء أو في أي مكون من مكوناته الأخرى، على سبيل تغليب عنصر على العناصر الأخرى، في حين أن القراءة السليمة هي التي تنهل من هذا التعدد، فلا أحيدوس من غير تفاعل بين أدق عناصره وأكبرها.
وإذا كشفنا عن هدف هذه القراءة الأسمى، والذي يرمي إسقاط القناع عن وجه الثقافة المغربية التي لم يختبرها حتى ممارسوها، في حالات كثيرة، فإن هذا الكشف لم ينته عند التعريف بأحيدوس لمن لا يعرفه، خارج حدود المغرب، بل هو محاولة لتعريف عدد من الممارسين بجانب مهم مما يمارسون، وتعريف كثير من الباحثين يما تخفي عنهم اهتماماتهم الأخرى أو مرجعياتهم الأيديولوجية أو الفكرية، ولعلنا بذلك نوقظ هذا الاهتمام في الانسان عموما ليلتفت إلى هذه الثقافة الشعبية التي ينظر إليها عادة بعين الدونية، لأنها لا تقل رصانة وغنى عن تلك المعارف الرصينة والعالمة، بل لعلها تتجاوز تلك المعارف في أحايين كثيرة، دون أن تتنصل عن أصلها الذي يجعلها ثقافة شعبية في نظر من يدعي لنفسه العلمية والعالمية، وهذا رهان اهتمامنا بهذ الثقافة عموما، ولا ندعي الإحاطة الكاملة بالموضوع في هذا المقال، بل لعله عتبة من عتبات قرائية للمساهمة في قراءات أعمق وأشمل.



[1] . سعيد كريمي فرجة أحيدوس عند قبائل آيت حديدو بإيميلشيل (كتاب جماعي) ص 158
[2]  محمد صبري. الأشكال التعبيرية في الرقص الأمازيغي بالأطلس المتوسط (الفرجة والتنوع الثقافي: كتاب جماعي) ص147
[3]  رشيد الحاحي. النار والأثر بصدد الرمزي والمتخيل في الثقافة الأمازيغية. المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (2006)ص71
[4]   ديناميكية اللعب يوهان كوتسينغا، ص 46

تعليقات

المشاركات الشائعة